لقد عانى أجدادنا كثيرًا من الاحتلال العسكري الذي فشا في الدول الإسلامية، خاصة بعد انهيار الخلافة العثمانية عام 1924مز
وقد مهَّد لهذا الاحتلال وهيَّأ له الغزو الفكري بوجهيه القبيحين المتمثلين في الاستشراق والتنصير؛ ذلك الغزو الذي اتخذ أشكالًا عدة ومنافذَ مختلفة للسيطرة على عقول المسلمين تمهيدًا للاحتلال الأوروبي وانسجامًا معه.
تدافعت المحن على الأمة الإسلامية وأصبح كل قُطر يفكر في ذاته كيف يهرب من القصعة ويتجنب الأَكَلَة المحتلين بعد معاهدة سايكس بيكو؛ التي تم بمقتضاها تقسيم التَرِكَة العثمانية في ما بينهم؛ فسيطرت بريطانيا على مصر والأردن والعراق وفلسطين.
واستأثرت إيطاليا بليبيا، وأخذت فرنسا سورية ولبنان وسيطرت على تونس والجزائر وغيرها، ولم تنجُ بعض دول الخليج خلال القرنين الماضيين من إرساليات تبشيرية أثَّرت فيها إلى حدٍّ ما، كالبحرين والكويت.
لم يبدُ حينها الاحتلال نزيها أو رحيمًا في الدول التي وطأت فيها أقدامه ولم ترفع شعارات كثيرة عن الديمقراطيات كما هي عليها الآن، ولم لا؟ والوضع في دولة الخلافة كان الأسوأ من نوعه حين أعلن كمال أتاتورك عن القومية الطورانية التي لا علاقة لها بالعالم الإسلامي.
وألغى اللغة العربية واستبدلها بالحروف اللاتينية، وحوَّل المساجد إلى مسارح، وألغى كتاتيب حفظ القرآن... إلخ؟ فبادلته بريطانيا المغازلة واشتدت الوطأة على بعض الدول العربية خلال هذا العصر.
السخرة الجسدية:
ومما عاناه المسلمون استغلالُهم في ما يسمى بنظام السخرة؛ وهو استخدام العمال والفلاحين كعبيد للسيد المحتل في أعمال شاقة للتشييد والزراعة، تخدم أهدافهم في مقابل الأكل والشرب فحسب.
هذا التشييد في جميع أحواله لم يكن الهدف منه هدفًا ساميًا؛ فقد أُجبر الآلاف - بل قيل: إنهم أكثر من مليونَي ونصف من أبناء مصر - تحت قهر السياط على أعمال لا تصلُح أن تقوم بها حتى الحيوانات - أعزكم الله - كما حدث في حفر قناة السويس وبعض أعمال المزارعة.
وحينما خرج المحتل خلَّف وراءه مفسدين يعيثون في الأرض فسادًا، بداية من إفساد حركة التعليم وعَلمَنَتها وزرع مدارس تنصيرية، مرورًا بشبهات التحرُّرية وإهدار كرامة اللغة الفصحى، وانتهاء بإلغاء المحاكم الشرعية وإحلال المحاكم الوضعية محلَّها.
نتج عن هذه التغيرات جيل جديد يركن بعضُه للباطل ويترعرع على عشبه الضار.
ولا ننكر ولا نستصغر دور الإسلاميين والمؤسسات الإسلامية في إعادة تدعيم ثوابت الأمة مرة أخرى في القرن العشرين؛ إلا أن دورهم في هذه المرحلة كان يوصف بسمات متباينة، من عدم وحدة الصف، واختلاف الرؤى بين التيارات الإسلامية، والإقصاء المتعمَّد من الحكام العرب، وغيرها من المصاعب التي واجهها الإسلاميون بشكل عام.
السخرة الفكرية:
لكنَّ الأمر لم يسلم؛ فتحت سياط الإهدار الفكري والانحطاط الخُلُقي ونشر الفكر العَلماني المتطرف فإن بعضًا من أبناء عالمنا الإسلامي - وللأسف الشديد - كان قد استعذبهم مبدأ السخرة واستهوتهم سادية الأوروبي، وجرت في عروقهم مجرى الدم فشعروا بأنهم لا بد أن يكونوا دومًا تحت رحمة الأوروبي طوعًا أو كرهًا، واعتقدوا أن البعد عن منهجه يعني الفشل والدمار والتأخُّر والضياع.
والسخرة الفكرية هذه المرة كانت على الطريقة العصرية الأنيقة؛ فهي تحاكي دعايات الحرية والإخاء والمساواة، إنها أقل حدَّة وأشدُّ وطأة، وتتمثل في استغلال فكر بعضٍ من المولَعين بالحضارة الأوروبية وادخار قدراتهم لخدمة أهداف أجنبية لتشييد وبناء مطامع الغرب في بلاد العرب.
هؤلاء المسخَّرون تتضح ملامحهم من خلال سمات مشتركة فيما بينهم تدل دلالة واضحة على ما نزعمه.
وهذه السمات باتت تفضحهم وتجعلهم في قائمة التاريخ السوداء؛ فلقد حمل هؤلاء أدواتهم التي أصبحت علامة لهم، وباتت مميَّزة تميُّز الفأس على كتف العامل المسخَّر وهو يحفر ليمهد ويشيد ليس له ولا لأبنائه بل للسيد المحتل الأصفر؛إنها أدوات مكررة أكل عليها الدهر وشرب.
السمات المشتركة لعمال السخرة الفكرية:
ترديد دعاوى المفكرين المتأثرين بالفكر الاستشراقي التي عفا عليها الزمان وامتلأت المكتبات ردودًا عليها، وقد سبقهم إليها أسلافهم، ومنهم من تاب ومنهم من ردَّ عليه العلماء ردودًا مفحمة.
ولا يزال هؤلاء المسخَّرون يفتحون الكتب الصفراء نفسها لينقلوا ما فيها وكأنهم يتحـدثون إلى أحجار لا تعي؛ فلا تزال مزاعم طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر)، ومزاعم علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، وسلامة موسى في كتابه (ما هي النهضة؟) وقاسم أمين في كتابه (المرأة الجديدة)... وغيرهم
لا تزال تتكرر وكأننا نعود لنقطة الصفر مرة أخرى لنقول: إن الإسلام عقيدة لا شريعة وندعو بدعاوى القرن التاسع عشر من التحرُّرية المزيفة! ولا أدري هل يريدوننا أن نعيد كرة الذل والعار مرة أخرى؟ ألم يكتفِ العالم الإسلامي من ويلات تلك الشعارات البائدة؟
ألم يتنبه شباب الأمة إلى أن التغييـر الـذي يحمله هؤلاء هو تغيير فقط في المسميات لا في الأفكار والرؤى؟
الربط بين التقدمية والحرية وبين التخلي عن الإسلام: من خلال عقد مقارنات زائفة بين الحضارة الأوروبية المتقدمة وتحرُّرها من الكنيسة، وبين تخلُّف المسلمين والتزامِهم بدينهم، مقتبسين قضايا وحججًا عانى منها الغرب النصراني من تسلط الكنيسة ومن ثَمَّ إسقاطها قسرًا على الإسلام للتلبيس على عامة المسلمين، ومن المعروف البون الشاسع بين فكرتَي الدولة الدينية الثيوقراطية والخلافة الإسلامية.
رفع الشعار الأتاتوركي مرة أخرى بعد أن ظهر زيفه وحقارته؛ وهو أن الخلافة الإسلامية هي احتلال عربي أو تركي، وأنها بأفكارها القديمة باتت كالرجل المريض الذي لا يُرجى برؤه، وتهييج الحس القومي والمؤثرات العرقية في كل قطر
تكرار بعض القضايا القديمة التي قُتلَت بحثًا وردًّا، وأثبتتْ في تطبيقها على المسلمين فشلها المحض، بل واعترف الغرب الحديث بأهمية العودة لمبادئ الإسلام في مثل: قضايا تحرير المرأة، وسياحة العري، وقضية الاقتصاد الربوي البديل عن الاقتصاد الإسلامي، والقضايا المتعلقة بالجنس والترهيب من تطبيق الحدود.
إثارة الشبهات بالطعن في الثوابت ونشر ثقافة التعددية في الإسلام: بمعنى أن الاسلام ليس فقط الإسلام السني؛ بل هناك فكر معتزلي عقلاني قويم (المدرسة العقلانية الحديثة)، وآخر صوفي متبتل، وثالث شيعي معتدل! واللعب على أوتار التزوير في القصص التاريخية بنقل روايات متهافتة تستند إلى الوضع والتدليس، للطعن في الصحابة وفي أعلام أهل السنة بطريقة لا تمتُّ لمنهج علمي صحيح بصلة.
إلقاء شبهات مكررة ضد التيارات الإسلامية: وكأننا نرجع القهقرى ثلاثين عامًا أو يزيد، لنتهم التيارات الإسلامية بالاستغلاق والإرهاب وانعدام الوعي والصلف والجمود، والتعامل مع القضايا الحياتية والمعاملات الاجتماعية بالقسوة والتعصب، ونحن لا نطالب بأكثر من التعامل مع الجميع بحيادية دون الحكم المسبق والمعقود على الآخرين.
محاولة تبنَّي الفكر العقلاني المستعلي على النقل والغيبيات، وتحكيم العقل محل الشرع، ووضع ذلك وكأنه الخيار الأول والأخير في تحكيمهم للقضايا الشرعية والعقدية وتغليف الحوار بمقولة الرأي والرأي الآخر، رغم أنه لا يوجد في معظم أطروحاتهم إلا رأي آخر.
ظهور بعضٍ من هؤلاء الملحوظ في الإعلام بمجالاته المختلفة، وارتفاع صوتهم بلا مبرر، ومنحهم دورات ابتعاثية في بعض الدول الأوروبية، وتدعيم آرائهم الشاذة من قِبَل جهات معروف تاريخها في التعاون مع الغرب رغم عدم تميُّز هؤلاء العلمي، ولا قدراتهم السياسية في بعض الأحيان.
وهو ما يجعلنا نفسر الأمر ونربطه بأسبابه الحقيقية، والعجب يبلغ أشده حين تجد منهم من خَفَتَ ذكره ورسمه، وما إن يحارب دين الله إلا وتنافح عنه المنظمات الحقوقية العالمية، بل قد يصل الأمر لوزراء بعض الدول الغربية أن يدافعوا عنه بالظُّفْر والناب!
إن ما يحدث الآن - خاصة في البلاد التي بدأت فيها الثورات المعاصرة أو الربيع العربي - لا يمكن بحال وصفه بأنه حالة من (الغزو الفكري).
كما حدث سابقًا في احتلال القرن الماضي؛ فلقد ساعدت هذه الثورات على تمييز الصفوف واتضاح الرؤى المتباينة، ولكننا يمكننا القول بأنها مرحلة متقدمة عن هذا المصطلح؛ حيث تم انتقاء العيِّنات المناسبة من تجربة الغزو الفكري وتصفيتها لاستخدامها في السخرة الفكرية.
فلم تَعُدْ كما بالسابق مجرد منشورات ومقالات وكتب تكتب على استحياء من المتأثرين بالفكر الغربي، يصادَر بعضها وتمنَع من النشر ويُرَدُّ على بعضها ويتراجع الآخرون عن بعض أقوالهم، بل أصبحت مناهجَ مدروسة تمالأ عليها مفكرو السخرة، وعمال الشاشات الإعلامية وبعض ممن يسمَّون بالنشطاء الإنسانيين في الملتقيات الثقافية والصحف وشبكة التواصل الاجتماعي.
وثمة كثير من الأدلة المصورة التي تبرهن صدق حديثنا وتوضح كيف يتواطأ هؤلاء على رواية الخبر وتحليل الحدث في أوقات متزامنة تجعلنا نضع حولهم كثيرًا من علامات الاستفهام.
ويحدونا الأمل:
إن الأمل في الله كبير؛ فخذلانهم بات سهلًا على المجتمعات الإسلامية، ولقد أثبتت لنا الشعوب الإسلامية في الآونة الأخيرة أن الخبرة المجتمعية والعقل الجماعي للشعوب الإسلامية اكتسب خبرة عريضة خلال تجربة القرن السابق، ولم يعد مخدوعًا كسابق عهده؛ رغم اشتداد وطأة هؤلاء المسخَّرين وتحسُّن نتاجهم وأدائهم عن السابق، وتمكُّنهم من أدوات عصرية حديثة ليست في أيدي غيرهم.
ومهما يكن من مخاوف وتوجُّسات من التفافٍ حول الثورات المعاصرة، فلن يضر كثيرًا العقلَ المسلمَ في القرن الـ 21 بإذن الله.
وهو الذي ظهر حجمه الطبيعي للمرة الأولى بعد مضي قرن من التعتيم والتكتم والإقصاء المتعمَّد، لقد كانت تجربة الغزو الفكري مريرة بحق ولا نزال نعاني منها، وأضحت السُّخرة الفكرية أشد مرارة لكنها أيضًا أشد تمايزًا عن الحقيقية والحق.
وكما يقال: إن الضربة التي لا تقصم الظهر تقوِّيه، ونحن على يقين أن ما لا يأتي بالحوار سيفلُّه في يوم ما الحديد والنار؛ وذلك إذا انكشف الوجه القبيح للاحتلال الحديث مرة أخرى وفكَّر في إعادة كرة الاستعمار العسكري.
المصدر: مجلة البيان العدد 295